الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}.ولما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقصدوا بترك الطواف بينهما إلا الطاعة فأعلموا أن الطواف بينهما طاعة، عبر بما يفيد مدحهم فقال تعالى: {ومن تطوع} قَالَ الحرالي: أي كلف نفسه معاهدة البر والخير من غير استدعاء له {خيرًا} فيه إعلام بفضيلة النفقة في الحج والعمرة بالهدي ووجوه المرافق للرفقاء بما يفهمه لفظ الخير، لأن عرف استعماله في خير الرزق والنفقة، كما قال تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات: 8] و{إن ترك خيرًا} [البقرة: 180]؛ ولما كان رفع الجناح تركًا عادلها في الخطاب بإثبات عمل خير ليقع في الخطاب إثبات يفيد عملًا حين لم يفد الأول إلا تركًا، فمن تحقق بالإيمان أجزل نفقاته في الوفادة على ربه واختصر في أغراض نفسه، ومن حرم النصف من دنياه اقتصر في نفقاته في وفادته على ربه وأجزل نفقاته في أغراض نفسه وشهوات عياله، فذلك من أعلام المؤمنين وأعلام الجاهلين، من وفد على الملك أجزل ما يقدم بين يديه، وإنما قدمه بالحقيقة لنفسه لا لربه، فمن شكر نعمة الله بإظهارها حين الوفادة، عليه في آية بعثة إليه ولقائه له شكرًا لله له ذلك يوم يلقاه، فكانت هدايا الله له يوم القيامة أعظم من هديه إليه يوم الوفادة عليه في حجه وعمرته {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {شاكر} أي مجاز بالأعمال مع المضاعفة لثوابها؛ قال الحرالي: وقوله: {عليم} فيه تحذير من مداخل الرياء والسمعة في إجزال النفقات لما يغلب على النفس من التباهي في إظهار الخير. انتهى.
يَعْنِي أَنَّهُ يَقْصِدُ ثُمَّ نُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَعَانٍ أُخَرِ لَمْ يَكُنْ اسْمًا مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَان فَمهمَا وَرَدَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ.وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَّ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَمَّا سَعَى بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةَ الْوُجُوبِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ.وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَذَلِكَ أَمْرِ يَقْتَضِي إيجَابُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ، فَوَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا.وَقَدْ رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: «قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْت؟ فَقُلْت: أَهْلَلْت بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْسَنْت طُفْ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ» فَأَمَرَهُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ.وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ جَمِيعًا مَجْهُولُ الرَّاوِي، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُبَيْدِ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، «عَنْ امْرَأَةٍ سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيُ فَاسْعَوْا فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ يَقُولَ ذَلِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» وَلَمْ تَذْكُرْ اسْمَ الرَّاوِيَةِ.وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَيْصِنٍ عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ «امْرَأَةٍ يُقَالَ لَهَا حَبِيبَةُ بِنْت أَبِي تُجْزَأَةَ قَالَتْ: دَخَلْت دَارَ أَبِي حُسَيْنٍ وَمَعِي نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى إنَّ ثَوْبَهُ لَيَدُورَ بِهِ وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ» فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرَادَهُ السَّعْيَ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ الرَّمْي وَالطَّوَافُ نَفْسُهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْي يُسَمَّى سَعَيَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ إسْرَاعَ الْمَشْي، وَإِنَّمَا هُوَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ.وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالرَّمَل فِيهِ، وَهُوَ سَعْي لِأَنَّهُ إسْرَاعُ الْمَشْيِ.وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ أَيَّ سَعْيٍ كَانَ، وَهُوَ إذَا رَمْل فَقَدْ سَعَى، وَوُجُوبُ التَّكْرَار لَا دَلَالَة عَلَيْهِ.فَالْأَخْبَارُ الْأُوَلُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَلَا دَلَالَة فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا لَا يَنُوبُ عَنْهُ دَمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ يَنُوبُ عَنْهُ لِمَنْ تَرَكَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بَعْد الْإِحْلَالِ مِنْ جَمِيعِ الْإِحْرَامِ كَمَا يَصِحُّ الرَّمْيُ وَطَوَافُ الصَّدْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنُوب عَنْهُ الدَّمُ كَمَا نَابَ عَنْ الرَّمْي وَطَوَافِ الصَّدْرِ.فَإِنْ قِيلَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ يُفْعَلُ بَعْدَ الْإِحْلَالَ وَلَا يَنُوب عَنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يُوجِبُ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ، وَإِذَا طَافَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَيْسَ لِبَقَاءِ السَّعْيِ تَأْثِيرٌ فِي بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ كَالرَّمْيِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ لَمْ يَحِلّ مِنْ النِّسَاءِ وَكَانَ حَرَامًا حَتَّى يَسْعَى بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ بَعْدَهُمْ أَنَّهُ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى ثَلَاثَة أَقَاوِيل بَعْدَ الْحَلْقِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ اللِّبَاسِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيِّبِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ.وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُحْرِمٌ مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ فَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ النِّسَاءِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّعْيَ بَيْنهمَا لَا يُفْعَلُ إلَّا تَبَعًا لِلطَّوَافِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا طَوَافَ عَلَيْهِ لَا سَعْيَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَطَوَّعُ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَتَطَوَّعُ بِالرَّمْيِ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.فَإِنْ قِيلَ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إنَّ مَنْ لَا يُفْعَلُ إلَّا بَعْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ تَبَعٌ فَيَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَا لَا يُفْعَلُ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَهُوَ تَابِعٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَفْعُولٍ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لِغَيْرِهِ بَلْ يُفْعَلُ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ مِنْ شُرُوطِهِ شَيْئَانِ: الْإِحْرَامُ وَالْوَقْتُ، وَمَا كَانَ شَرْطُهُ الْإِحْرَامَ أَوْ الْوَقْتَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِوَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ تَبَعُ فَرْضٍ غَيْرِهِ.وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُهُ بِالْوَقْتِ.وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إنَّمَا تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِالْإِحْرَامِ وَالْوَقْتِ وَلَيْسَ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْإِحْرَامِ، فَلَيْسَ هُوَ إذَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ.وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُ مَعَ حُضُورِ وَقْتِهِ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ غَيْرِهِ وَهُوَ الطَّوَافُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَأَشْبَهَ طَوَافَ الصَّدْرِ لَمَّا كَانَتْ صِحَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ كَانَ تَبَعًا فِي الْحَجِّ يَنُوبُ عَنْ تَرْكِهِ دَمٌ وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ لِأَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ مَعَالِمُ الطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِشْعَارِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُك شَعَرْت بِكَذَا وَكَذَا أَيْ عَلِمْته.وَمِنْهُ إشْعَارُ الْبَدَنَةِ أَيْ إعْلَامُهَا لِلْقُرْبَةِ، وَشِعَارُ الْحَرْبِ عَلَامَاتُهَا الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا فَالشَّعَائِرُ هِيَ الْمَعَالِمُ لِلْقُرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وَشَعَائِرُ الْحَجِّ مَعَالِمُ نُسُكِهِ، وَمِنْهُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ بِفَحْوَاهَا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَهُمَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثُمَّ قَوْلُهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُمَا، وَأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَنْفِ إرَادَةَ الْوُجُوبِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ السَّعْيَ فِيهِ مَسْنُونٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ.وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَصَوَّبَتْ قَدَمَاهُ فِي الْوَادِي سَعَى حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ.وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: أَرَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: كَانَ فِي النَّاسِ فَرَمَلُوا وَلَا أَرَاهُمْ فَعَلُوا إلَّا بِرَمَلِهِ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي.وَرَوَى مَسْرُوقٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي.وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ شَاءَ يَسْعَى بِمَسِيلِ مَكَّةَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ وَإِنَّمَا يَعْنِي الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي.وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: «رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: إنْ مَشَيْت فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي، وَإِنْ سَعَيْت فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى».وَرَوَى عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ فَأَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَطْنِ الْوَادِي» وَذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ إظْهَارُ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَعَلُّقُ فِعْلِهِ بِهَذَا السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ سُنَّةً مَعَ زَوَالِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ.وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ كَانَ رَمْيَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إبْلِيسَ لَمَّا عَرَضَ لَهُ بِمِنًى، وَصَارَ سُنَّةً بَعْدَ ذَلِكَ.وَكَذَلِكَ كَانَ سَبَبُ الرَّمَلِ فِي الْوَادِي أَنَّ هَاجَرَ لَمَّا طَلَبَتْ الْمَاءَ لِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَجَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَانَتْ إذَا نَزَلَتْ الْوَادِيَ غَابَ الصَّبِيُّ عَنْ عَيْنِهَا، فَأَسْرَعَتْ الْمَشْيَ.وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَلِمَ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَبَقَهُ إبْرَاهِيمُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سُرْعَةِ الْمَشْيِ هُنَاكَ.وَهُوَ سُنَّةٌ كَنَظَائِرِهِ مِمَّا وَصَفْنَا.وَالرَّمَلُ فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِمَّا قَدْ نَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مَسْنُونًا بَعْدَهُ، وَظُهُورُ نَقْلِهِ فِعْلًا إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
|